قصة مفتراة على نبي الله يوسف عليه السلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ثبت في "صحيح مسلم" (ح804)، "كتاب صلاة المسافرين" (ح252) من حديث أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه... ".
ويحاول البعض أن يعرف معاني الآيات التي قرأها فيقع وهو لا يدري في قصص واهية وأحاديث منكرة وضعت في بعض التفاسير وتناقلها الوعاظ والقصاص.
من أجل ذلك قال الإمام ابن الجوزي في "الموضوعات" (1-31): "إن سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مأثورة ينقلها خلف عن سلف، ولم يكن هذا لأحد من الأمم قبلها، ولما لم يمكن أحد أن يدخل في القرآن شيئًا ليس منه، أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وينقصون ويبدلون ويضعون عليه ما لم يقل، فأنشأ الله - عز وجل - علماء يذبون عن النقل، ويوضحون الصحيح، ويفضحون القبيح، وما يخلي الله - عز وجل - منهم عصرًا من العصور، غير أن هذا النسل قد قل في هذا الزمان فصار أعز من عنقاء مغرب". اه.
قلت: فإذا كان الأمر كذلك في عهد ابن الجوزي المتوفى سنة (597ه)، فكم يكون عدد العلماء الذابين عن الحديث في هذا العصر؟ لا شك أنهم أقل من القليل، مما يؤكد علينا وجوب الاستمرار في نشر هذه السلسلة "تحذير الداعية من القصص الواهية"، وتحذيرًا للناس منها، وقيامًا بواجب بيان العلم.
- القصة المفتراة على نبي الله يوسف - عليه السلام -، وهي "قصة ابتغاء يوسف - عليه السلام - الفرج من عند غير الله".
القصة حول تفسير الآية (42- يوسف) في قوله - تعالى -: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين.
القصة: قال يوسف للذي علم أنه ناج من صاحبيه اللذَيْن استعبراه الرؤيا: اذكرني عند ربك وهو الملك وأخبره بمظلمتي، وأني محبوس بغير جرم، هذا خبر من الله جل ثناؤه عن غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان نسى لها ذكر ربه الذي لو به استغاث لأسرع بما هو فيه خلاصه، ولكنه زلّ بها فأطال من أجلها في السجن حبسه وأوجع لها عقوبته.
قلت: هذه القصة التي أخبر فيها الإمام الطبري- عفا الله عنا وعنه- عن غفلة يوسف ونسيانه لذكر الله، وأنه لم يستغث بالله، فأطال من أجل ذلك في السجن حبسه.
ولقد بنى قوله هذا في القصة على حديث مرفوع أخرجه في تفسيره (7-244) (ح19322) حيث قال: كما حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو لم يقل يوسف- يعني الكلمة التي قالها- ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله".
التحقيق
قلت: في السند علتان تجعلان هذه القصة واهية.
الأولى: إبراهيم بن يزيد، أورده الإمام المزي في "تهذيب الكمال" (1-452- 263) وقال: يعرف بالخوزي روى عن عمرو بن دينار، سكن شِعْب الخوز بمكة فنسب إليه.
1- قال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: متروك.
2- وقال أبو بشر الدولابي عن البخاري: "سكتوا عنه". قال الدولابي: يعني: تركوه. اه.
3- قلت: وأورده الإمام البخاري في "الضعفاء الصغير" رقم (12) وقال: "إبراهيم بن يزيد، أبو إسماعيل الخوزي مكي سكتوا عنه، يروي عن محمد بن عباد بن جعفر، وعمرو بن دينار".
4- أورده الإمام النسائي في كتاب "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (14) وقال: "إبراهيم بن يزيد الخوزي: متروك".
فائدة
أ- مصطلح البخاري: "سكتوا عنه": قال السيوطي في "التدريب" (1-439): "البخاري يطلق: فيه نظر، وسكتوا عنه فيمن تركوا حديثه، ويطلق منكر الحديث: على من لا تحل الرواية عنه".
ب- مصطلح النسائي: متروك.
قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص69): "مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه".
5- وأورده الدارقطني في "المتروكين" رقم (13) كما في سؤالات البرقاني.
6- وأورده ابن حبان في "المجروحين" (1-100) وقال: "روى عن عمرو بن دينار، وأبي الزبير، ومحمد بن عباد بن جعفر مناكير كثيرة وأوهامًا غليظة حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها".
الثانية: سفيان بن وكيع بن الجراح:
أ- أورده الإمام الذهبي في "الميزان" (2-173- 3334).
أ- قال البخاري: يتكلمون فيه لأشياء لقنوه إياها.
ب- وقال أبو زرعة: يتهم بالكذب.
2- قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4-231): "سألت أبا زرعة عنه فقال: لا يشتغل به، قيل له كان يكذب، قال: كان أبوه رجلاً صالحًا، قيل له: كان يتهم بالكذب؟ قال: نعم".
3- أورده ابن حبان في "المجروحين" (1-355): وقال: "ابتلي بورّاق سوء كان يدخل عليه- أي أدخل عليه ما ليس من روايته، ونصحه العلماء أن يدعه، فلم يرجعه، فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك". اه.
4- قال النسائي في "الضعفاء والمتروكين" رقم (289): "سفيان بن وكيع بن الجراح: ليس بشيء".
الاستنتاج
نستنتج من هذا التحقيق أن السند ضعيف جدّا وأن القصة واهية.
الضمير في قوله: فأنساه الشيطان ذكر ربه.
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (4-172):
1- "ولما ظن يوسف - عليه السلام - أن الساقي ناج قال له يوسف خفية عن الآخر- والله أعلم- لئلا يشعره أنه المصلوب- قال له: اذكرني عند ربك، يقول: اذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصَى أن يذَكِّر مولاه الملك بذلك، وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن هذا هو الصواب أن الضمير في قوله: فأنساه الشيطان ذكر ربه عائد على الناجي كما قال مجاهد، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد".
2- ويقال أن الضمير عائد على يوسف - عليه السلام -، رواه ابن جرير عن ابن عباس، ومجاهد أيضًا وعكرمة وغيرهم، وأسند ابن جرير ههنا حديثًا فقال: حدثنا ابن وكيع حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديث القصة الذي حققناه آنفًا.
3- ثم قال الإمام ابن كثير: "هذا الحديث ضعيف جدّا لأن سفيان بن وكيع ضعيف، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه ايضًا، وقد روى عن الحسن وقتادة مرسلاً عن كل منهما وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم". اه.
إقرار علامة الشام القاسمي للإمام ابن كثير
لقد أقر علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره "محاسن التأويل" (4-367) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، حيث قال: "وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعًا: "لو لم يقل- يعني يوسف- الكلمة التي قال، ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله - تعالى -". فقال الحافظ ابن كثير: حديث ضعيف جدّا وذكر من رجاله الضعفاء روايتين سماهما. ثم قال: وروي أيضًا مرسلاً عن الحسن وقتادة، قال: وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم".
ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة. اه.
قلت: من تعقيب علامة الشام القاسمي على تحقيق الإمام ابن كثير يتبين إقراره لابن كثير - رحمه الله -، وبيان الصواب في قوله: فأنساه الشيطان ذكر ربه، وبراءة يوسف - عليه السلام - مما نسب إليه في هذه القصة من نسيان ذكر الله وابتغائه الفرج من عند غير الله وعقوبته على ذلك بطول الحبس، ولقد تبين للقارئ الكريم أن هذا الخبر منكر وقصة واهية.
السنة الصحيحة تثبت ما قلناه
أولاً: من الأوهام التي وقعت في هذه القصة الواهية أن يوسف - عليه السلام - قال للناجي: "اذكرني عند ربك" جزعًا واستعجالاً للخروج من السجن، والسنة الصحيحة المطهرة ترد هذه الشبهة وتبين صبر يوسف - عليه السلام -، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي".
قلت: الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري (ح3375، 3387، 4537، 4694، 6992)، ومسلم (ح151)، قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي":
1- فهو ثناء على يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وبيان لصبره، وتأنيه.
2- والمراد بالداعي رسول الملك الذي أخبر الله - سبحانه وتعالى- أنه قال: ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم {يوسف: 50}.
3- فلم يخرج يوسف - عليه السلام - مبادرًا إلى الراحة، ومفارقة السجن الطويل، بل ثبت، وتوقر، وأرسل إلى الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه، ولتظهر براءته عند الملك وغيره فيلاقيه الملك وهو يعتقد براءته مما نسب إليه.
4- فبين نبينا - صلى الله عليه وسلم - فضيلة يوسف في هذا، وقوة نفسه في الخير، وكمال صبره، وحسن نظره.
5- وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه ما قاله، تواضعًا، وإيثارًا للإبلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف - عليه السلام -.
قلت: ولقد أجاد وأفاد الإمام النووي - رحمه الله - في تفسيره لهذا الحديث والذي به ترد الشبهات التي جاءت في القصص الواهية، وترد فرية نسيان يوسف - عليه السلام - ذكر الله، وهو الذي دعاهما في السجن إلى توحيد الله كما في الآيات (38، 39، 40 سورة يوسف) عندما استعبراه الرؤيا.
ثانيًا: ومن الأوهام التي نشأت عن هذه القصة الواهية: أن يوسف - عليه السلام - عندما جزع في السجن، ونسي ذكر الله وابتغى الفرج من عند غير الله عوقب بطول السجن.
ولقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" (7-2159) (ح11642) حديثًا قدسيا يحتج به أصحاب هذه الشبهة، ولكي نرد هذه الشبهة يجب دحض هذه الحجة.
ولقد أخرج ابن أبي حاتم الحديث تحت قوله - تعالى -: فلبث في السجن بضع سنين، حيث قال: حدثنا أبي وأبو زرعة قالا: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا سلام بن أبي الصهباء، حدثنا ثابت، عن أنس قال: أوحى الله إلى يوسف، يا يوسف من استنقذك من الجب إذْ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب. قال: من استنقذك من القتل إذ هم إخوتك أن يقتلوك؟ قال: أنت يا رب، قال: فما لك نسيتني وذكرت آدميًا؟ قال: جزعًا بذنبي، وكلمة تكلم بها لساني. قال: وعزتي لأخلدنك السجن بضع سنين. اه.
قلت: وإلى القارئ الكريم تحقيق هذه القصة: "قصة معاتبة الله ليوسف - عليه السلام - على نسيانه وجزعه ثم عقوبته".
فالقصة واهية والحديث منكر، وعلته: "سلام بن أبي الصهباء".
1- قال فيه أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري في كتابه "التاريخ الكبير" (4-135) ترجمة (2234): سلام بن أبي الصهباء، حدثنا ثابت عن أنس: سلام منكر الحديث. اه.
قلت: ولقد بينت آنفًا معنى مصطلح البخاري "منكر الحديث"، وأن البخاري يطلقه على من لا تحل الرواية عنه.
2- أورده الإمام الذهبي في "الميزان" (2-180-3350) وقال: "سلام بن أبي الصهباء أبو المنذر البصري الفزاري عن ثابت وقتادة ضعفه يحيى".
3- قال ابن حبان في "المجروحين" (1-336): "سلام بن أبي الصهباء الفزاري من أهل البصرة يروي عن ثابت البناني وقتادة روى عنه معلى بن أسد والبصريون، ممن فحش خطؤه وكثر وهمه، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد".
قلت: وقول ابن حبان: "فحش خطؤه وكثر وهمه"، هذه العبارة تجعل الراوي يخرج أيضًا عن منطقة المتابعات، حيث قال الإمام العراقي في "فتح المغيث" (ص7): "من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك وإن كان عدلاً".
4- قلت: وهذا ما بيّنه الإمام العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2-159-1665) فبعد أن أخرج عن الإمام البخاري أنه "منكر الحديث" قال: "ولا يتابع عليه عن ثابت". اه.
قلت: بهذا التحقيق يتبين أن قصة نسيان يوسف - عليه السلام - ذكر الله وابتغائه الفرج من عند غير الله قصة واهية وحديثها منكر، وكذلك قصة معاتبة الله ليوسف - عليه السلام - وجزعه وعقوبته قصة واهية أيضًا وحديثها منكر كما بيَّنا في علتها وقول أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري.
وأختم هذا البحث بقول مسك الختام للنبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري (ح3390): "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام".
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.